“كوفيد-19” في المنطقة المغاربية .. وقفة مؤقتة أم تَحوّل مفصلي؟

من المرجح أن تسفر جائحة كوفيد-19 عن أعمق ركود اقتصادي عالمي في وقت السلم شهده التاريخ الحديث. وبينما يتعافى الاقتصاد العالمي، تواجه منطقة المغرب العربي مسألة وجودية: فهل ستمثل الجائحة مجرد توقف مؤقت لأساليب العمل التقليدية أم أنها ستؤشر إلى تغيّر حقيقي في مقاربة السياسات الاقتصادية والاجتماعية بشكل يحقق طموحات شباب المنطقة؟

بالرغم من أن كل بلد من بلدان المغرب العربي الخمسة – الجزائر وليبيا وموريتانيا والمغرب وتونس – دخل الأزمة محمّلاً بمكامن ضعف مختلفة، إلّا أنها جميعا تواجه تحديات اجتماعية-اقتصادية متشابهة إلى حد ما: زيادة إمكانيات النمو الممكن والفرص للشباب والنساء، والحد من هيمنة القطاع العام، وخلق مجال أوسع أمام السياسات الداعمة للاقتصاد.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display(‘div-gpt-ad-1608049251753-0’); });

مروحة من نقاط البدء

لننظر إلى المملكة المغربية: بالرغم من أن متوسط معدل النمو بلغ أكثر من 3% في العقد الماضي، فإن حوالي ثلث الشباب لا يزال عاطلا عن العمل حتى الآن. وتُلحِق الأزمة الناجمة عن الجائحة ضررا بالغا بالبلاد، نظرا لما تسببه من تعطيل للقطاع السياحي وسلاسل التوريد، والروابط التجارية مع بلدان أوروبا المتضررة بشدة من الأزمة.

وفي موريتانيا، كان النمو متسارعا قبل الأزمة، فيما كانت الديون في مسار منخفض. ومع ذلك، فلا يزال الحصول على الخدمات العامة الأساسية غير كافٍ، وجائحة كوفيد-19 لتزيد الأثر الاجتماعي والاقتصادي حدّة نظرا لضعف القدرات في القطاع الصحي وقصور شبكات الأمان الاجتماعي.

وفي تونس، وبالرغم من عشر سنوات ممتالية من جهود الإصلاح الاقتصادي، لايزال متوسط النمو أقل من 2%، ويشكل حجم القطاع العام عبئا على الاقتصاد – حيث تجاوزت فاتورة الأجور الحكومية 15% من إجمالي الناتج المحلي وتفتقر المؤسسات المملوكة من الدولة إلى الفعالية. وفرضت الجائحة على تونس أعمق ركود اقتصادي منذ الاستقلال، مما فاقم القلق في بلد يعاني ثلث شبابه من البطالة.

وكانت الجزائر تعاني قبل وقوع الأزمة من ضعف معدلات النمو (حوالي 1% منذ عام 2017)، وارتفاع معدلات البطالة، وضعف حسابات المالية العامة، وعدم اليقين الكبير عقب الحراك الشعبي في عام 2019. وعلى أثر الضربة المزدوجة المتمثلة في الإغلاق العام بسبب جائحة كوفيد-19 وما صاحبها من انهيار في إيرادات النفط اضطرت الحكومة إلى خفض الإنفاق من أجل احتواء عجز المالية العامة الذي ذات الرقم المزدوج.

وفي الوقت نفسه، وفي ظل سنوات الصراع التي عصفت بـليبيا واضطراب إنتاج النفط فيها، يحتاج مليون مواطن من سكانها البالغ عددهم 6,9 مليون نسمة إلى مساعدات إنسانية. وقد أدت الجائحة، مصحوبة بانهيار أسعار النفط، إلى تفاقم االأزمة الإنسانية ومن المرجح أن تتسبب في زيادة الفقر.

نظرة إلى امستقبل: قصة مغرِبين

بعد حقبة من الإصلاحات بوتيرة بطيئة، أوضحت الجائحة أن التغيرات السريعة ممكنة. ففي المملكة المغربية، أصبحت المعاملات الحكومية إلكترونية وتم تسريع الانتاج المحلي للكمامات. وفي الجزائر، ازدادت منصات التعليم الرقمية الناشئة. وتحولت الشركات في تونس من صناعة قطع غيار السيارات إلى طباعة أقنعة الوجه الوقائية ثلاثية الأبعاد. وقامت شركة ناشئة في ليبيا بتطوير تطبيق يصل الأطباء بالمرضى في المناطق النائية.

وأمام المنطقة الآن فرصة الاختيار – فإما البناء على هذه الإنجازات ووضع الأساس لعقد اجتماعي جديد أو إهدار فرصة القرن بالعودة إلى عصر الإصلاحات البطيئة. ونظرا لضيق الفرصة المالية المتاحة في ميزانياتها، فإن بلدان المغرب، ليس لديها خيار تأجيل الإصلاحات، أو الاقتراض دون خطط متوسطة الأجل ذات مصداقية، أو الإبقاء على القطاع العام بحجمه المتضخم، أو دعم صناعات غير قابلة للحياة، ليست خياراً. فالعودة إلى ” السياسات القديمة ذاتها” ستؤدي إلى انخفاض أكبر بمعدلات النمو واستشراء عدم المساواة، وقد تتسبب في نشوء اضطرابات اجتماعية. لذا، ينبغي التعامل مع الجائحة باعتبارها نقطة تحَوّل مفصلي نحو مستقبل يكون فيه النمو أسرع وأغنى بفرص العمل وأكثر صداقة للبيئة، ويحصد ثماره الجميع. والإصلاحات القائمة على الركائز الست،– الإصلاحات في المالية العامة، وفي القطاع العام، وفي مجال الحوكمة و الإصلاحات الاجتماعية، و الهيكلية، ، والتكامل الإقليمي – التي لطالما كانت تتسم بالأهمية من قبل، أصبحت الآن مسألة حياة أو موت.

من شأن تقوية مؤسسات المالية العامة وإدارتها، بما في ذلك تعزيز أطر المالية العامة متوسطة الأجل وتحديد أولويات الإنفاق بصورة أفضل، أن تدعم المساءلة والفعالية وتضمن إبقاء الدين في حدود مستدامة. وسيساعد إلغاء الإعفاءات الضريبية والمعاملة الضريبية التفضيلية على ضمان مساهمة كل شرائح المجتمع على نحو متكافئ. ويمكن تحقيق مكتسبات كبيرة في هذا المجال: ففي المملكة المغربية، على سبيل المثال، من خلال إصلاح شامل يهدف إلى توسيع القاعدة الضريبية وتحسين تصاعدية الضرائب والإدارة الضريبية، يمكن تحقيق زيادة في الإيرادات الضريبية بنسبة تصل إلى 2% من إجمالي الناتج المحلي على المدى المتوسط.

وسيؤدي توسيع نطاق الحماية الاجتماعية الموجهة للفئات المستحقة، مع الإلغاء التدريجي للدعم غير الفعال والمهدر للموارد، إلى تحسين رفاهية المواطنين، وحماية الفئات الأكثر هشاشة، والحد من عدم المساواة. وقد كشفت جائحة كوفيد-19 عن ضعف التغطية في كثير من البلدان، مما أعاق توصيل المساعدات الحيوية في الوقت المناسب إلى الأسر الأكثر هشاشة. وسيكون من الضروري بناء سجلات اجتماعية شاملة لتحديد الأسر المحتاجة –وتشكّل المملكة المغربية نموذجا حيث تم تطويع قواعد البيانات القائمة للوصول إلى العاملين في القطاع غير الرسمي أثناء أزمة كوفيد-19 – وتحسين آليات الاستهداف، وتشجيع التحويلات الإلكترونية. وفي بعض البلدان، قد يعني ذلك دمج البرامج القائمة.

وينبغي إعادة النظر في دور القطاع العام – خاصة في الجزائر وتونس والمملكة المغربية حيث تهيمن المؤسسات المملوكة للدولة –مع التركيز على الصحة والتعليم وشبكات الأمان الاجتماعي. فقد أوضحت الجائحة، أن للقطاع العام دوراً حيوياً يحتاج إلى تعزيز في هذه المجالات. وبالتوازي مع ذلك، فإن إجراء إصلاح شامل للمؤسسات المملوكة للدولة، إلى جانب الإصلاحات المتعلقة بالمنافسة والأطر الناظمة وسوق العمل، هو أمر ضروري للحد من مخاطر المالية العامة، وإتاحة المجال أمام المنافسة العادلة، وتشجيع الابتكار.

وسيؤدي تعزيز الرقمنة والاقتصاد الأخضر إلى وضع المنطقة في صدارة البلدان التي تلحق بالاتجاهات ما بعد جائحة كوفيد-19. وسيتطلب هذا إصلاحات هيكلية جريئة تسلسلها مدروس جيّداً، واستثمارات عامة مختارة بعناية. وتمثل الصلابة في مواجهة التغير المناخي عاملا أساسيا في منطقة تتسم بكثرة السكان الريفيين المعتمدين على قطاع الزراعة. ومن شأن تسريع التقدم نحو الاقتصاد الجديد الذي تدعمه الرقمنة أن يعطي دفعاً لتنمية القطاع الخاص، مما يساعد المملكة المغربية وتونس على الحد من هيمنة القطاع العام على الاقتصاد، ويشجع الجزائر وليبيا وموريتانيا على تنويع اقتصاداتها بعيداً عن السلع الأساسية.

وسيؤدي بناء مؤسسات فعالة وشفافة إلى دعم الحوكمة أو الحكم الرشيد. وقد تحقق بعض التقدم في هذا المجال في تونس، على سبيل المثال، حيث أجريت تحسينات في معايير شفافية المالية العامة. ولدعم بيئة المنافسة العادلة، سيتعين تحديث الإطار القانوني والتنظيمي لحقوق الملكية، وتعزيز إجراءات التي تحكم إفلاس الشركات وممارسات المنافسة.

وأخيرا، فمن شأن زيادة التكامل الاقليمي كعنصر مكمل للسياسات المحلية، أن تساعد في تنويع التجارة وحماية المنطقة من احتمال تباطؤ النمو في أوروبا. ويمكن للتكامل الإقليمي أن يرفع معدلات النمو في كل بلد من بلدان المغرببمتوسط نقطة مئوية واحدة على المدى الطويل. وسيكون الحصول على اللقاح وتوزيعه اختبارا فوريا لمدى التعاون الإقليمي.

إن المنطقة في مفترق طرق بالغ الأهمية. فقد دخلت بلدان المغرب فترة الجائحة في ظل أوضاع ومكامن ضعف مختلفة، ولكن تجربة كل بلد أوضحت إمكانية انتهاج سياسات فعالة. واليوم، تجد المنطقة نفسها أمام فرصة القرن، إذ يمكنها خلق تغيير إيجابي وقيادة مرحلة التعافي في إفريقيا. فالمكاسب من العمل في هذا الاتجاه كبيرة، لذا ينبغي أن تكون الأزمة نقطة انطلاق لحوار وطني مع الأطراف المعنية بغية إجراء إصلاحات جريئة تساعد بلدان المغرب على الخروج من الأزمة في وضع أكثر صلابة، بدعم من المجتمع الدولي.

تالين كورنشليان: نائب مدير دائرة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي.

جويس وونغ: خبير اقتصادي كبير في دائرة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي.

The post “كوفيد-19” في المنطقة المغاربية .. وقفة مؤقتة أم تَحوّل مفصلي؟ appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.

زر الذهاب إلى الأعلى